فصل: تفسير الآية رقم (268):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (267):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} أضاف سبحانه الكسب إليهم، وإن كان هو الخالق لأفعالهم، لأنه فعلهم القائم بهم، وأسند الإخراج إليه لأنه ليس فعلا لهم، ولا هو مقدورا لهم، فأضاف مقدورهم إليهم وأضاف مفعوله الذي لا قدرة عليه إليه. ففي ضمنه الرد على من سوى بين النوعين وسلب قدرة العبد وفعله وتأثيره عنه بالكلية. وخص سبحانه هذين النوعين وهما الخارج من الأرض والحاصل بكسب التجارة دون غيرهما من المواشي: إما بحسب الواقع فإنهما كانا أغلب أموال القوم إذ ذاك. فإن المهاجرين كانوا أصحاب تجارة وكسب، والأنصار كانوا أصحاب حرث وزرع. فخص هذين النوعين بالذكر لحاجتهم إلى بيان حكمهما وعموم وجودهما، وإما لأنهما أصول الأموال وما عداهما فعنهما يكون ومنهما ينشأ فإن الكسب يدخل فيه التجارات كلها على اختلاف أصنافها وأنواعها من الملابس والمطاعم والرقيق والحيوانات والآلات والأمتعة وسائر ما تتعلق به التجارة، والخارج من الأرض يتناول حبها وثمارها وركازها ومعدنها، وهذان هما أصول الأموال وأغلبها على أهل الأرض، فكان ذكرهما أهم.
ثم قال: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} فنهى سبحانه عن قصد إخراج الرديء، كما هو عادة أكثر النفوس: تمسك الجيد لها وتخرج الرديء للفقير.
ونهيه سبحانه عن قصد ذلك وتيممه فيه ما يشبه العذر لمن فعل ذلك لا عن قصد وتيمم، بل عن اتفاق إذ كان هو الحاضر إذ ذاك، أو كان ماله من جنسه. فإن هذا لم يتيمم الخبيث بل تيمم إخراج بعض ما من اللّه به عليه.
وموقع قوله: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} موقع الحال أي لا تقصدوه منفقين منه.
ثم قال: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} أي لو كنتم أنتم المستحقون له وبذل لكم لم تأخذوه في حقوقكم إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه، من قولهم: أغمض فلان عن بعض حقه. ويقال للبائع: اغمض، أي لا تستقص. كأنك لا تبصر. وحقيقته: من إغماض الجفن، فكأن الرائي لكراهته له لا يملأ عينه منه بل يغمض من بصره ويغمض عنه بعض نظره بغضا، ومنه قول الشاعر:
لم يفتنا بالوتر قوم وللضيـ ** ـم رجال يرضون بالإغماض

وفيه معنيان:
أحدهما: كيف تبذلون للّه وتهدون له ما لا ترضون ببذله لكم ولا يرضى أحدكم من صاحبه أن يهديه له؟ واللّه أحق من يختار له خيار الأشياء وأنفسها.
والثاني: كيف تجعلون له ما تكرهون لأنفسكم، وهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبا؟.
ثم ختم الآيتين بصفتين يقتضيهما سياقهما، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فغناه وحمده يأبيان قبوله الرديء، فإن قابل الرديء الخبيث إما أن يقبله لحاجته إليه، وإما أن نفسه لا تأباه لعدم كمالها وشرفها، وأما الغني عنه الشريف القدر الكامل الأوصاف فإنه لا يقبله.

.تفسير الآية رقم (268):

{الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268)}
هذه الآية تتضمن الحض على الإنفاق والحث عليه بأبلغ الألفاظ وأحسن المعاني. فإنها اشتملت على بيان الداعي إلى البخل، والداعي إلى البذل والإنفاق وبيان ما يدعو إليه داعي البخل، وما يدعو إليه داعي الإنفاق، وبيان ما يدعو به داعي الأمرين.
فأخبر سبحانه أن الذي يدعوهم إلى البخل والشح هو الشيطان وأخبر أن دعوته هي بما يعدهم به ويخوفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم. وهذا هو الداعي الغالب على الخلق. فإن أحدهم يهم بالصدقة والبذل فيجد في قلبه داعيا يقول له: متى أخرجت هذا دعتك الحاجة إليه، وافتقرت إليه بعد إخراجه، وإمساكه خير لك، حتى لا تبقى مثل الفقير، فغناك خير لك من غناه. فإذا صور له هذه الصورة أمره بالفحشاء وهي البخل الذي هو من أقبح الفواحش. وهذا إجماع من المفسرين: أن الفحشاء، هنا البخل. فهذا وعده وهذا أمره. وهو الكاذب في وعده، الغار الفاجر في أمره. فالمستجيب لدعوته مغرور مخدوع مغبون. فإنه يدلي من يدعوه بغروره. ثم يورده شر الموارد، كما قيل:
دلاهم بغرور، ثم أوردهم ** إن الخبيث لمن والاه غرار

هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه، ولا نصيحة له، كما ينصح الرجل أخاه ولا محبة في بقائه غنيا، بل لا شيء إليه من فقره وحاجته. وإنما وعده له بالفقر وأمره إياه بالبخل ليسيء ظنه بربه، ويترك ما يحبه من الإنفاق لوجهه، فستوجب منه الحرمان.
وأما اللّه سبحانه إنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه، وفضلا بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه أما في الدنيا أو في الدنيا والآخرة.
فهذا وعد، اللّه وذاك وعد الشيطان. فلينظر البخيل والمنفق أيّ الوعدين هو أوثق؟ وإلى أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه؟ واللّه يوفق من يشاء ويخذل من يشاء. وهو الواسع العليم.
وتأمل كيف ختم هذه الآية بهذين الأسمين {وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} فإنه واسع العطاء عليم بمن يستحق فضله ومن يستحق عدله، فيعطي هذا بفضله، ويمنع هذا بعدله. وهو بكل شيء عليم.
فتأمل هذه الآيات ولا تستطل بسط الكلام فيها فإن لها شأنا لا يعقله إلا من عقل عن اللّه خطابه وفهم مراده {وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ} [29: 43].
وتأمل ختم هذه السورة، التي هي سنام القرآن بأحكام الأموال وأقسام الأغنياء وأحوالهم. وكيف قسمهم إلى ثلاثة أقسام: محسن، وهم المتصدقون. فذكر جزاءهم ومضاعفته، ومالهم في قرض أموالهم للمليء الوفي سبحانه، ثم حذرهم مما يبطل ثواب صدقاتهم ويحرقها بعد استوائها وكمالها من المن والأذى، وحذرهم مما يمنع ترتب أثرها عليها ابتداء من الرياء. ثم أمرهم أن يتقربوا إليه بأطيبها، ولا يتيمموا أردأها وخبيثها. ثم حذرهم من الاستجابة لداعي البخل والفحش، وأخبر أن استجابتهم لدعوته سبحانه وثقتهم بوعده أولي بهم. وأخبر أن هذا من حكمته التي يؤتيها من يشاء من عباده، وأن من أوتيها فقد أوتى خيرا كثيرا: أوتي ما هو خير وأفضل من الدنيا كلها، لأنه سبحانه وصف الدنيا بالقلة، فقال تعالى: {قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ} وقال تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} فدل على أن ما يؤتيه اللّه عبده من حكمته خير له من الدنيا وما عليها، ولا يعقل هذا كل أحد، بل لا يعقله إلا من له لب وعقل زكي. فقال تعالى: {وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ}.
ثم أخبر أن كل ما أنفقوه من نفقة أو تقربوا به إليه من نذر فإنه يعلمه، فلا يضيع لديه، بل يعلم ما كان منه لوجهه فيتولى هو سبحانه مجازاته من واسع فضله ويكل جزاء من عمل لغيره إلى من عمل له فإنه ظالم لنفسه وما له من نصير.
ثم أخبر سبحانه عن أحوال المتصدقين لوجهه في صدقاتهم، وأنه يثيبهم عليها، إن أبدوها أو كتموها بعد أن تكون خالصة، لوجهه فقال: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} أي فنعم شيء هي، وهذا مدح لها موصوفة بكونها ظاهرة بادية، فلا يتوهم مبديها بطلان أثره وثوابه، فيمنعه ذلك من إخراجها، وينتظر بها الإخفاء، فتفوت أو تعترضه الموانع ويحال بينه وبين قلبه، أو بينه وبين إخراجها. فلا يؤخر صدقته العلانية بعد حضور وقتها إلى وقت السر، وهذه كانت حال الصحابة.

.تفسير الآية رقم (271):

{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}
فأخبر أن إعطاءها للفقير في خفية خير للمنفق من إظهارها وإعلانها..
وتأمل تقييده تعالى الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصة، ولم يقل: وإن تخفوها فهو خير لكم، فإن من الصدقة ما لم يكن إخفاؤه كتجهيز جيش، وبناء قنطرة، وإجراء نهر أو غير ذلك، وأما إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها من الفوائد: الستر عليه، وعدم تخجيله بين الناس، وإقامته مقام الفضيحة، وأن يرى الناس أن يده هي اليد السفلى، وأنه لا شيء له فيزهدون في معاملته ومعاوضته. وهذا قدر زائد عن الإحسان إليه بمجرد الصدقة، مع تضمنه الإخلاص، وعدم المراءاة وطلب المحمدة من الناس، وكان إخفاؤها للفقير خيرا من إظهارها بين الناس، ومن هذا مدح النبي صلّى اللّه عليه وسلّم صدقة السر وأثنى على فاعلها، وأخبر أنه أحد السبعة الذين هم في ظل عرش الرحمن يوم القيامة. ولهذا جعله سبحانه خيرا للمنفق، وأخبر أنه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته. ولا يخفي عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم. فإنه بما تعملون خبير.
ثم أخبر أن هذا الإنفاق إنما نفعه لأنفسهم، يعود عليهم أحوج ما كانوا إليه فكيف يبخل أحدكم عن نفسه بما نفعه مختص بها عائد إليها؟ وإن نفقة المؤمنين إنما تكون ابتغاء وجهه خالصا. لأنها صادرة عن إيمانهم، وإن نفقتهم ترجع إليهم وافية كاملة. ولا يظلم منها مثقال ذرة.
وصدر هذا الكلام بأن اللّه هو الهادي الموفق لمعاملته وإيثار مرضاته وأنه ليس على رسوله هداهم. بل عليه إبلاغهم. وهو سبحانه الذي يوفق من يشاء لمرضاته.
ثم ذكر المصرف الذي توضع فيه الصدقة.

.تفسير الآية رقم (273):

{لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)}
فوصفهم بست صفات:
إحداها: الفقر.
الثانية: حبسهم أنفسهم في سبيله تعالى وجهاد أعدائه، ونصر دينه، وأصل الحصر: المنع، فمنعوا أنفسهم من تصرفها في أشغال الدنيا، وقصروها على بذلها للّه وفي سبيله.
الثالثة: عجزهم عن الأسفار للتكسب، والضرب في الأرض: هو السفر.
قال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [73: 20] وقال تعالى: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [4: 101].
الرابعة: شدة تعففهم. وهو حسن صبرهم، وإظهارهم الغنى.
يحسبهم الجاهل أغنياء من تعففهم، وعدم تعرضهم وكتمانهم حاجتهم.
الخامسة: أنهم يعرفون بسيماهم. وهي العلامة الدالة على حالتهم التي وصفهم اللّه بها. وهذا لا ينافي حسبان الجاهل أنهم أغنياء، لأن الجاهل له ظاهر الأمر، والعارف: هو المتوسم المتفرس الذي يعرف الناس بسيماهم. فالمتوسمون خواص المؤمنين، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [15: 75].
السادسة: تركهم مسألة الناس، فلا يسألونهم إلحافا والإلحاف: هو الإلحاح والنفي متسلط عليهما معا، أي لا يسألون ولا يلحفون. فليس يقع منهم سؤال يكون بسببه إلحاف. وهذا كقوله على لا حب لا يهتدي لمناره أي ليس فيه منار فيهتدي به. وفيه كالتنبيه على أن المذموم من السؤال: هو سؤال الإلحاف. فأما السؤال بقدر الضرورة من غير إلحاف فالأفضل تركه ولا يحرم.
فهذه ست صفات للمستحقين للصدقة فألغاها أكثر الناس ولحظوا منها ظاهر الفقر، وزيه من غير حقيقته. وأما سائر الصفات المذكورة فعزيز أهلها، ومن يعرفهم أعز. واللّه يختص بتوفيقه من يشاء فهؤلاء هم المحسنون في أموالهم.
القسم الثاني: الظالمون، وهم ضد هؤلاء، وهم الذين يذبحون المحتاج المضطر. فإذا دعته الحاجة إليهم لم ينفّسوا كربته إلا بزيادة على ما يبذلونه له. وهم أهل الربا. فذكرهم تعالى بعد هذا فقال: